“مجلس الشعب” تمثيل رمزي في ظل جغرافيا سورية مشتتة وهويات متباينة

في أجواء الاحتفال بما سُمي بـ”مؤتمر النصر” أواخر يناير 2025، أعلن الرئيس المؤقت أحمد الشرع مجموعة قرارات مصيرية من بينها حلّ مجلس الشعب القديم، وإلغاء دستور 2012، وتشكيل مجلس تشريعي جديد. تلك الخطوة، ورغم طابعها الثوري المعلن، سرعان ما أثارت تساؤلات جوهرية حول من يصوغ المرحلة الانتقالية؟ ولصالح من؟ ومن يملك حق التمثيل؟

وبينما يفترض أن يكون تأسيس أول برلمان سوري بعد الأسد إيذاناً ببداية عهد ديمقراطي، يبدو أن ما جرى هو إعادة إنتاج لصيغة قديمة بأدوات جديدة، ما يهدد بأن يتحول “مجلس الشعب” مجددًا إلى جهاز بلا شعب، وهيكل بلا سيادة شعبية.

هندسة فوقية لا تمثيل شعبي

بمرسوم رئاسي يحمل الرقم 66، شُكّلت لجنة عليا للانتخابات لتتولى تنظيم آلية اختيار أعضاء المجلس الجديد، الذي يضم 150 عضوًا: ثلثاهم يتم اختيارهم عبر ما يسمى بـ”الهيئات الناخبة”، والثلث المتبقي (50 عضوًا) يُعيّنه الرئيس بشكل مباشر.

لكن هذه “الهيئات الناخبة” ليست سوى هياكل فرعية، تُنتخب بشكل غير مباشر، ولا ترتبط بأي عملية تصويت شعبي. فاختيارها يتم من قبل لجان محلية، ترفع أسماءها إلى لجنة مركزية عيّنها الرئيس نفسه. وهكذا تصبح العملية حلقة مغلقة من التعيين المُقنّع، لا مجال فيها للمساءلة أو التعبير الشعبي.

من يختار من؟ ومتى يعود صوت الناس؟

الخطاب الرسمي يُسوّق النموذج الحالي كحل توافقي ومؤقت، يراعي ظروف البلاد الأمنية واللوجستية، لكن السؤال الأهم: متى يُتاح للشعب السوري حق الاختيار الحر والمباشر؟ وهل يجوز للمرحلة الانتقالية – التي يفترض أنها استثنائية – أن تُبنى على منطق الإقصاء وليس الشراكة؟

نموذج “الهيئات الناخبة” يحمل تشابهًا مثيرًا مع تجارب أخرى غير ديمقراطية:

منظمة التحرير الفلسطينية: رغم أن المجلس الوطني الفلسطيني يفترض أنه يمثل الفلسطينيين، إلا أن عضويته كانت دومًا محل انتقاء فصائلي، لا نتاج انتخابات. هذا حوّله إلى أداة شرعنة للقيادة بدلًا من كونه هيئة تعكس إرادة الشتات والشعب الفلسطيني.

مجلس الشورى لطالبان: أنشأته الحركة في التسعينيات ليكون مظلة سياسية لحكمها، لكنه لم يكن منتخبًا قط، بل مجرد واجهة دينية لقرارات تتخذها القيادة المغلقة في قندهار.

اللجنة الثورية للحوثيين: عقب انقلاب 2015، فرض الحوثيون “لجنة ثورية عليا” بديلاً عن المؤسسات المنتخبة، وصارت هذه اللجنة تصدر التعيينات وتحتكر القرار باسم التمثيل الوطني، دون أي تفويض شعبي.

اللجنة المركزية للثورة الفرنسية: في مرحلة “عهد الإرهاب”، سيطرت لجنة السلامة العامة على الدولة الفرنسية باسم حماية الثورة، لكنها حكمت بالحديد والنار دون مساءلة، وقلّصت صلاحيات البرلمان المنتخب نفسه.

المجلس العسكري في السودان (2019): رغم الوعد بانتقال مدني، تمسك الجيش بالسلطة عبر “مجلس سيادي” فرضه فرضًا، ولم يتحقق التمثيل المدني الحقيقي إلا بعد احتجاجات طويلة وضغط دولي.

شرعية مفروضة أم سلطة انتقالية؟

ما يجري في سوريا يُعيد طرح سؤال الشرعية من جديد: هل يكفي إعلان المؤسسات الجديدة؟ أم أن الشرعية تكتسب فقط حين يكون الناس شركاء في بنائها؟

إن الحديث عن “اعتماد الكفاءات” يبدو مقنعًا على الورق، لكن من يحدد من هو الكفء؟ ومن يضمن ألّا تتحول معايير الكفاءة إلى ستار لتمرير النخب القديمة أو المقربين من السلطة الجديدة؟

ثم إن الشروط المعلنة للترشح – مثل “حسن السيرة” وعدم ارتكاب “جرائم مشينة” – تبدو بريئة، لكنها غامضة وخاضعة لتفسير سياسي، كما كان الحال في سنوات الاستبداد. فهل نُعيد استخدام أدوات النظام السابق بصيغة محسّنة؟

تمثيل منقوص في جغرافيا منقسمة

الاعتماد على بيانات سكانية تعود لعام 2010 لتوزيع الحصص التمثيلية في المجلس التشريعي الجديد لا يعكس التحولات الديمغرافية العميقة التي شهدتها البلاد خلال أكثر من عقد من الحرب والتهجير القسري والانقسام السياسي. هذا المنهج يُقصي فعليًا ملايين السوريين المهجّرين في الداخل والخارج، ويهمّش أصوات من يعيشون في مناطق خارجة عن سيطرة الحكومة المركزية، سواء أكان مناطق الإدارة الذاتية الكردية والعربية في شمال وشرق سوريا.او مناطق الدروز والعلويين.

في مناطق الإدارة الذاتية، حيث تنشط هياكل حكم محلية ذات طابع ديمقراطي تشاركي، بما فيها المجالس المدنية و”مجلس سوريا الديمقراطية”، فإن استبعاد هذه التجربة من معادلة التمثيل الوطني يعكس إقصاءً سياسيًا مزدوجًا: أولًا، تجاه الطموحات القومية الكردية، وثانيًا، تجاه نموذج سياسي مدني يطمح لبناء سوريا لا مركزية.

والمفارقة أن هذا الإقصاء لا يقتصر على الجغرافيا، بل يشمل أيضًا البنية الفكرية والسياسية للمجتمع السوري. فلا يبدو أن المجلس الجديد يفسح مجالًا فعليًا لتمثيل الديمقراطيين أو العلمانيين المطالبين بدستور مدني يضمن فصل الدين عن الدولة، كما يغيب عنه حضور ملموس لـالليبراليين الذين ينادون بحرية الفرد، وتعددية حزبية حقيقية، وسوق سياسي مفتوح.

حتى التكوين الاجتماعي-الطائفي لم يَسلم من منطق التمثيل الرمزي. ففي المناطق ذات الغالبية العلوية كطرطوس واللاذقية، أو ذات الأغلبية الدرزية كجبل العرب (السويداء)، لا يبدو أن التمثيل يُبنى على خيارات المجتمع، بل على توافقات فوقية تنحصر بين نخب موالية أو صامتة، غالبًا منزوعة الصلة بالنبض المحلي أو بمطالب الحركات الاحتجاجية التي خرجت هناك في السنوات الأخيرة.

إن هذا التوزيع التمثيلي المُفصّل على مقاس توازنات السلطة، لا على أساس السيادة الشعبية، يعيد إنتاج الخرائط السياسية والانقسامات القديمة، دون الاعتراف بالتنوع الحقيقي للمجتمع السوري ولا بحق مكوناته في المشاركة الحرة بصياغة مستقبل البلاد.

البرلمان كديكور سياسي؟

حتى اللحظة، لم يُعلَن عن نظام داخلي واضح للمجلس الجديد، ولا توجد صلاحيات رقابية محددة له، مما يعزز المخاوف من تحوله إلى غرفة تصفيق أو ديكور دستوري يُضفي شرعية على قرارات رئاسية جاهزة.

فهل نحن أمام تجربة تونسية جديدة، حيث صيغ الدستور من مجلس تأسيسي منتخب؟ أم أمام تجربة يمنية/سودانية/أفغانية حيث تُدار المرحلة باسم الشعب دون أن يكون له صوت؟

بين رمزية التأسيس وواقع الإقصاء

المرحلة الانتقالية في سوريا فرصة تاريخية لا ينبغي التفريط بها، لكن بناء المؤسسات على أسس فوقية يعيد إنتاج أزمات الشرعية والتمثيل التي فجّرت الثورة أصلاً.

فلا شيء، حتى في زمن الحرب والانقسام، يبرر تغييب صوت الناس. فالشعوب التي عاشت الحروب، كتونس وفرنسا وشيلي وحتى جنوب أفريقيا، لم تخرج منها إلا حين تم استعادة السيادة الشعبية فعليًا، لا شكليًا.

وما لم يُبنَ المجلس الجديد على قاعدة ديمقراطية حقيقية، وبمشاركة حرة ومباشرة، سيظل مجرد “مجلس بلا شعب”. فرق