في تطور يحمل دلالات استراتيجية عميقة، أعلنت مصادر دبلوماسية رفيعة من ضمنها المبعوث الأمريكي إلى سوريا ، أن الولايات المتحدة الأمريكية قد توصلت إلى “تفاهم مزدوج” مع الحكومة السورية الجديدة، بقيادة الرئيس أحمد الشرع، يقضي بالسماح بدمج آلاف المقاتلين الأجانب، بعضهم ينتمي لتنظيمات مصنفة كـ”جماعات متشددة”، ضمن وحدات عسكرية رسمية يجري تشكيلها تحت راية ما يُعرف بـ”الجيش الوطني السوري الموحد”.
يأتي هذا التفاهم في وقت تعيد فيه واشنطن تقييم أولوياتها في الشرق الأوسط، لا سيما بعد تصاعد الصراعات الدولية، ما يبدو، إلى تبني مقاربة جديدة أشبه بتلك التي اتبعتها مع حركة طالبان في أفغانستان، حين انتقلت من المواجهة إلى الشراكة التكتيكية.
تفاصيل الاتفاق: من الإرهاب إلى “الاندماج الوظيفي”
وفقاً لما أفادت به مصادر استخباراتية وإعلامية، فإن الخطة الجديدة تشمل انخراط نحو 3500 مقاتل أجنبي، معظمهم من الإيغور المنتمين إلى “الحزب الإسلامي التركستاني”، إلى جانب مقاتلين شيشانيين، وأوزبك، وأفغان، في وحدة عسكرية تم استحداثها حديثاً. كما تشمل جماعات مثل هيئة تحرير الشام، وحراس الدين، وأجناد القوقاز، التي لطالما شكّلت هاجساً أمنياً للمجتمع الدولي.
يتم تقديم هذه الخطوة من قبل الحكومة السورية على أنها جزء من “عملية إصلاح شاملة للجيش”، تهدف إلى تنظيم الفصائل غير النظامية، وإعادة تأهيلها تحت سلطة الدولة. غير أن ما يجري، بحسب محللين، هو في الواقع إعادة إنتاج لتوازنات القوة داخل سوريا، يُراد من خلالها شرعنة المقاتلين الأجانب ومنحهم صفة قانونية داخل إطار مؤسسي، وهو ما يشكك في صدقية أي خطاب رسمي بشأن “محاربة الإرهاب”.
واشنطن تغيّر قواعد اللعبة
الموقف الأمريكي الجديد يعكس تحوّلاً في أدوات التعاطي مع الملف السوري. اختارت إدارة واشنطن الدخول في تفاهمات عملية مع دمشق، تراعي الواقع القائم وتحاول احتوائه. يشبه هذا التوجه إلى حد بعيد المقاربة الأمريكية في أفغانستان، حيث تم في النهاية التفاوض مع حركة طالبان وتسهيل دمجها ضمن العملية السياسية – بل والسماح لها باستلام السلطة – رغم سجلها المتشدد.
يقول محللون إن هذا “الاتفاق الواقعي” جاء نتيجة ترتيب الأفق السياسي والعسكري في سوريا، مع سياسات القوى الدولية والإقليمية كحل قابل للحياة ومتقاطع مع مصالحها . وبذلك، فضّلت واشنطن “احتواء” التهديدات بدلاً من مواجهتها، على أن يتم تطويعها لاحقاً ضمن ترتيبات أمنية أوسع في الإقليم.
الأبعاد القانونية والسيادية: أزمة الدولة الحديثة
لكن هذه الخطوة تطرح إشكاليات قانونية وسياسية معقدة، إذ أن دمج جماعات تحمل سجلًا حافلاً بانتهاكات حقوق الإنسان داخل مؤسسات يفترض أن تكون وطنية ومحايدة، يُقوّض من فكرة الدولة ذات السيادة، ويضع مصداقية أي مسار سياسي سوري على المحك.
كيف يمكن الوثوق بمؤسسة عسكرية تضم مقاتلين لم يُجرِ أي منهم مراجعة فكرية أو قانونية أو حقوقية؟ هل نحن أمام محاولة “تطبيع الجهادية”؟ أم أنها خطوة اضطرارية فرضتها موازين القوى الجديدة؟ الإجابات لا تزال ضبابية، لكن المؤكد أن هذا التحرك يعيد رسم خريطة النفوذ العسكري في سوريا، ويُعطي إشارات ببدء مرحلة “الواقعية السياسية المسلحة”.
ردة الفعل الدولية: بين الحذر والقبول الضمني
حتى الآن، لم يصدر موقف رسمي حاد من أوروبا، لكن مصادر في الاتحاد الأوروبي أبدت “قلقاً بالغاً” من أن تؤدي هذه التفاهمات إلى تحول سوريا إلى منصة دولية لتدوير الجماعات المسلحة تحت مظلة رسمية، مما يعقد جهود إعادة الإعمار وعودة اللاجئين.
من جهة أخرى، فإن تركيا و بعض الدول العربية – اللاعبان الأساسيان على الساحة السورية – تراقبان الوضع بحذر. فأنقرة تخشى من تمدد الفصائل القوقازية خارج سيطرتها، فيما تنظر السعودية بعين الشك إلى أي إعادة تشكيل للجيش السوري لا تكون طرفاً مباشراً فيه.
إعادة هندسة “الفوضى المنظمة”.
في المحصلة، نحن أمام محاولة مدروسة لإعادة هندسة الفوضى السورية، ولكن ضمن قالب مؤسسي شكلي، يمزج بين شرعية الدولة وأدوات الحرب غير التقليدية. إنه تحوّل استراتيجي قد يفضي إلى هدنة طويلة الأمد، أو إلى موجة جديدة من الصراعات المقنّعة، كل ذلك رهنٌ بطريقة إدارة هذا “الاتفاق الهجين” في المرحلة القادمة.