سوريا بين الحنين إلى العصور الوسطى وتحديات الدولة الحديثة

تُعد سوريا من أكثر بلدان الشرق الأوسط تعقيدًا من حيث التكوين الاجتماعي والثقافي. فهي بلد متعدد القوميات، متنوع الطوائف والمذاهب، يتداخل فيه الديني بالسياسي، والتاريخي بالمعاصر، مما يجعل من دراسته وتحليله تحديًا مستمرًا. وقد عرفت سوريا خلال القرن الماضي، وبشكل متسارع بعد عام 2011، تحولات جذرية طالت بنية الدولة والمجتمع، وأسهمت النزعات الدينية والأيديولوجيات القومية بشكل كبير في تأجيج الأزمات الداخلية، بل وأصبحت أداة في الصراعات الإقليمية والدولية.

الدين كوسيلة للشرعنة والضبط السياسي

رغم أن الدستور السوري نص في دساتيره السابقة علمانية الدولة، إلا أن الدين لم يكن يومًا خارج إطار الفعل السياسي. فالمادة الثالثة من الدستور تنص على أن الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع، وأن رئيس الدولة يجب أن يكون مسلمًا. إضافة إلى ذلك، تُدار شؤون الأحوال الشخصية لكل طائفة وفقًا لمعتقداتها، ما يكرّس انقسامًا طائفيًا مؤسسيًا ضمن الدولة.

ومنذ السبعينيات، سعى النظام إلى توظيف الدين لكسب شرعية شعبية، لا سيما من خلال دعم المؤسسات الدينية الرسمية كوزارة الأوقاف، وربط رجال الدين بالدولة. هذا التداخل بين الديني والسياسي تعمق مع الثورة السورية، حين تبنّت السلطة خطابًا دينيًا محافظًا في بعض المراحل، لتلميع صورتها في مواجهة “التطرف”، فيما مارست بنفس الوقت أقسى أشكال القمع ضد المحتجين والمعارضين.

صعود الحركات الدينية وتراجع المشروع المدني

في ظل القمع السياسي وغياب الفضاء المدني، وجدت الحركات الإسلامية، لا سيما جماعة الإخوان المسلمين، مساحة للتمدد الاجتماعي منذ السبعينيات، رغم تعرضها لاحقًا للقمع الدموي في الثمانينيات. بعد 2011، ومع اندلاع الثورة، ظهر تيار واسع من الإسلام السياسي، ثم تصاعدت التنظيمات الجهادية، مثل جبهة النصرة وتنظيم داعش، التي حملت مشاريع “خلافة” عابرة للدول، وأعادت توظيف مفاهيم دينية تعود للعصور الوسطى.

ورغم ما لقيته هذه التنظيمات من دعم مادي ولوجستي من أطراف خارجية، إلا أنها فشلت في خلق نموذج حكم فعّال، بل ساهمت في تعزيز الكراهية والانقسام الأهلي، واستهدفت الأقليات وغير المنضوين تحت رؤيتها الدينية، ما أدّى إلى تهجير وتدمير مجتمعات بأكملها.

الأيديولوجيا القومية وسياسات التهميش

مثّل حزب البعث العربي الاشتراكي منذ عام 1963 حاملًا لمشروع قومي عروبي، هدف إلى توحيد الأمة العربية تحت راية واحدة. إلا أن هذا المشروع، وعلى الرغم من شعاراته التقدمية، ساهم في تهميش الأقليات غير العربية، وخصوصًا الأكراد، الذين تعرضوا لسياسات تعريب، وحُرم عشرات الآلاف منهم من الجنسية السورية، ومنعوا من استخدام لغتهم أو التعبير عن ثقافتهم.

كما ساهم الطابع الأمني للدولة البعثية في تكريس الطائفية السياسية، رغم خطابها القومي. فقد تم توظيف الطائفة العلوية، التي ينتمي إليها الرئيس بشار الأسد، في مفاصل السلطة والأمن والجيش، ما أثار حفيظة طوائف أخرى، وعمّق الانقسامات.

الأقليات في سوريا – بين التعايش التاريخي والتهميش المعاصر

عُرفت سوريا تاريخيًا بتنوعها الديني والمذهبي، حيث تعايشت الطوائف المسيحية، والدروز، والعلويون، والإسماعيليون، إلى جانب السنة، ضمن أطر اجتماعية محلية مستقرة. لكن هذا التعايش لم ينعكس على مستوى بناء الدولة الحديثة، إذ استُخدمت بعض الأقليات كأدوات في الصراع السياسي، بينما تعرضت أخرى لتهميش مؤسسي منهجي.

فالمسيحيون مثلًا، رغم حضورهم الثقافي ودورهم التاريخي في الحياة الفكرية والتعليمية، ظلوا ممثلين بشكل رمزي في السلطة السياسية، وأصبح خطاب حمايتهم يُستغل إعلاميًا من قبل النظام لتعزيز صورته في المحافل الدولية.

أما الشعب الكردي، فقد كان من بين أكثر المكونات تعرضًا للتهميش الممنهج، رغم كونه ثاني أكبر قومية في البلاد بعد العرب. ففي عام 1962، أُجري إحصاء استثنائي في محافظة الحسكة، أدى إلى حرمان أكثر من 300 ألف كردي من الجنسية السورية، وصُنِّفوا كـ”أجانب”، ثم ظهرت فئة “المكتومين”، وهم أناس لا يمتلكون أي صفة قانونية، ما منعهم من حقوق التعليم، التوظيف، والتملك.

تعرضت المناطق الكردية لسياسات تعريب قسرية، شملت تغيير أسماء القرى والبلدات، ومنع استخدام اللغة الكردية في المدارس والإعلام، بالإضافة إلى فرض مشاريع هندسية – مثل مشروع “الحزام العربي” – تهدف إلى تغيير البنية الديمغرافية لمناطقهم.

ورغم أن اندلاع الثورة السورية أتاح للأكراد فرصة للانخراط في العمل السياسي والمدني، وبرزت هيئات سياسية وإدارية تمثلهم مثل الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، إلا أن هذه التجارب ما زالت تواجه تحديات داخلية وخارجية، من بينها التهديدات الأمنية والتضييق الإقليمي والدولي، وغياب الاعتراف القانوني.

لقد ولّد هذا التاريخ من التمييز شعورًا عميقًا لدى الكرد بالاغتراب الوطني، ودفعهم إلى المطالبة بنظام فيدرالي يكفل لهم حقوقهم الثقافية والسياسية، ويؤسس لمواطنة متساوية تحفظ التعددية ضمن وحدة الدولة.


هل يمكن تنظيم المجتمع السوري على أساس ديني؟

التركيبة المعقدة للمجتمع السوري، الذي يضم عشرات الطوائف والمذاهب والقوميات، تجعل من أي محاولة لتنظيمه وفقًا لهوية دينية أو مذهبية مشروعًا إقصائيًا يهدد وحدة الدولة. لقد أثبتت التجربة، من خلال نماذج حكم “الدولة الإسلامية” أو الكيانات الدينية في بعض مناطق المعارضة، أن المشروع الديني غير قابل للتطبيق في الحالة السورية.

كما أن فرض هوية دينية على مجتمع متنوع كهذا يفتح الباب أمام صراعات لا تنتهي، بل ويقوّض أسس العيش المشترك، ويمنح الشرعية لمزيد من التدخلات الإقليمية التي تستثمر في هذه الانقسامات.

الدولة المدنية كمخرج تاريخي ووطني

الحل الوحيد لمعضلة الهوية والتمثيل في سوريا يكمن في بناء دولة مدنية ديمقراطية، تفصل الدين عن السياسة، وتكرّس مبدأ المواطنة كأساس وحيد للحقوق والواجبات. دولة تضمن حرية العقيدة والتعبير والانتماء، وتحترم الخصوصيات الثقافية للمكونات المختلفة دون فرض هوية قسرية موحدة.

يتطلب هذا الانتقال تفكيك البنى الأمنية والطائفية التي حكمت سوريا لعقود، وفتح المجال أمام عقد اجتماعي جديد يُبنى على العدالة الانتقالية والمصالحة، ويضع أسسًا لمجتمع متساوٍ، يتجاوز جراح الماضي، ويستعيد مفهوم الوطن كمجال جامع لا كيان مفروض.

من أزمنة الإمبراطوريات إلى أفق الدولة الجامعة

إن الحنين إلى الخلافة أو إلى الإمبراطوريات الدينية ليس سوى تعبير عن أزمة حالية في غياب المشروع السياسي المدني الجامع. أما تجاوز هذه الأزمة، فلا يمكن أن يتحقق إلا من خلال إعادة تعريف الدولة والهوية والسيادة، بما يضمن مشاركة حقيقية لكل السوريين في مستقبل بلادهم، بعيدًا عن الاصطفافات الطائفية أو القومية أو الأيديولوجية.

سوريا اليوم أمام مفترق تاريخي: إما أن تعيد إنتاج الماضي بكل مآسيه، أو أن تبني لنفسها مسارًا جديدًا، مدنيًا، تعدديًا، وعادلًا.