الإصلاح الزراعي والتغيير الديمغرافي في سورية: قراءة في سياسة الإقصاء العقاري بحق المناطق الكردية

الأرض كأداة سلطة

منذ ستينيات القرن الماضي، شكّلت الأرض في سورية أكثر من مجرد وسيلة إنتاج، بل تحولت إلى أداة للسيطرة السياسية وإعادة تشكيل الهويات والمجتمعات. في هذا السياق، لعبت القوانين العقارية والإصلاح الزراعي دوراً محورياً في ترسيخ هيمنة الدولة، لا سيما في المناطق ذات الأغلبية الكردية في شمال وشرق البلاد. لكن تلك القوانين، التي رُوّج لها على أنها تستهدف العدالة الاجتماعية ومكافحة الإقطاع، لم تكن محايدة. بل وُظّفت في إطار سياسات التغيير الديمغرافي الناعم والممنهج، حيث تم إقصاء الكرد وتجريدهم من أراضيهم تدريجياً، دون قتال مباشر، ولكن تحت غطاء القانون.

قانون الإصلاح الزراعي: العدالة الاجتماعية على الطريقة البعثية

تم إصدار قانون الإصلاح الزراعي رقم 161 لعام 1958 في فترة الوحدة السورية-المصرية، وتم تعديله لاحقاً خلال حكم حزب البعث، الذي استخدمه بفعالية لإعادة توزيع الأراضي. نظرياً، استهدف القانون محاربة الاحتكار والإقطاع، لكنه عملياً، وخاصة في تطبيقاته في المناطق الكردية، كان موجّهاً لتجريد الكرد من ملكياتهم الزراعية تحت حجج شتى:
تجاوز الحد القانوني للملكية.
غياب سندات الملكية (الطابو).
اعتبار بعض الأراضي أملاك دولة رغم حيازتها التقليدية من قبل العائلات الكردية لعقود.
وغالباً ما رُفض تسجيل الملكيات الكردية رسمياً، في وقت مُنح فيه حق التسجيل للمستوطنين الجدد أو للأقليات الموالية، ضمن خطة محسوبة لإضعاف الوجود الكردي اقتصادياً واجتماعياً.

سد الفرات وتوطين منكوبيه: التهجير المُقنّع للمكوّن الكردي

في سبعينيات القرن العشرين، أنشئ سد الفرات، ما أدى إلى غمر آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية في محافظة الرقة. وكان من المفترض أن تُعوّض العائلات المتضررة في مناطقها، إلا أن الدولة عمدت إلى نقلها إلى مناطق كردية في الحسكة والجزيرة، وتحديداً على الشريط الحدودي مع تركيا، ضمن مشاريع ما عرف بـ”مزارع الدولة” أو “مشاريع الاستصلاح”.

بهذه الإجراء، مارست الدولة عملية تغيير ديمغرافي ناعم، لم يُستخدم فيه العنف، بل القوانين والإجراءات التنموية. تم الاستيلاء على أراضي كردية دون تعويض، ثم وُزعت على وافدين عرب، مما ساهم في خلق واقع سكاني جديد يُضعف الوجود الكردي ويقوّض مطالبته بأرضه التاريخية.

حجب الطابو وتجميد انتقال الملكية: قتل قانوني للهُوية العقارية

من بين أبرز أدوات الإقصاء العقاري بحق الكرد، كانت سياسة منع الطابو، حيث حُرم آلاف السكان من توثيق أملاكهم رسمياً، ما جعلهم:
غير قادرين على نقل الملكية بالوراثة.
عاجزين عن بيع أو رهن الأرض.
عرضة لمصادرتها باعتبارها “أملاكاً عامة” أو “دون وثائق”.
وبدل التعويض، فرضت الدولة على المالكين الأصليين في بعض الحالات استئجار أراضيهم المصادرة، في ظاهرة لا مثيل لها قانونياً أو أخلاقياً، حوّلت أصحاب الأرض إلى مستأجرين بالإكراه، في ظل صمت قضائي وتعتيم إداري.

آليات أمنية مدروسة: البعث والاستخبارات وفهم معادلة السيطرة الناعمة

لقدأظهر حزب البعث الحاكم، منذ تسلّمه السلطة عام 1963، فهماً عميقاً لمعادلة الأرض والسيطرة. لم يعتمد فقط على القوة العسكرية، بل استخدم أدوات التشريع والإدارة والمخابرات لإعادة رسم الخريطة السكانية. فقد قامت الأجهزة الأمنية بإعداد خرائط تفصيلية للمناطق الكردية، وتحديد مناطق “الضعف والسيطرة”، وتم تنفيذ سياسات هندسة سكانية على مراحل، دون ضجيج.
هذه الآلية الباردة والممنهجة للتغيير الديمغرافي أثبتت فعاليتها؛ إذ بات يُنظر إلى الكرد في كثير من المناطق كأقلية “مبعثرة”، رغم كونهم السكان الأصليين. الأسوأ أن هذه السردية تسللت إلى خطاب أطراف من المعارضة السورية، الذين تبنوا، أحياناً من دون وعي، نفس مزاعم النظام حول “عدم أغلبية الكرد” في مناطقهم، متجاهلين التاريخ والسياسات التي أوصلت الأمور إلى هذا الواقع.
وهكذا، فإن المنظومة الديمغرافية التي بناها الأسد لا تخدمه وحده، بل قد يستفيد منها من يخلفه أيضاً، إذا لم تُعالج جذور الإقصاء العقاري والسكاني من أساسها.

ترسانة من القوانين التعسفية: أدوات الإقصاء المشرعن

أسست السياسات المذكورة على حزمة من القوانين والقرارات التشريعية، من أبرزها:
المرسوم 93 لعام 1970: يتيح للدولة الاستيلاء على الأراضي للمنفعة العامة دون تعريف دقيق لهذه المنفعة.
القانون رقم 66 لعام 1969: تم بموجبه توزيع الأراضي المصادرة على المتضررين من سد الفرات في مناطق الكرد.
المرسوم 49 لعام 2008: فرض قيوداً صارمة على البيع والشراء في المناطق الحدودية ذات الغالبية الكردية، وربط أي تصرف عقاري بالموافقات الأمنية.
القانون 10 لعام 2018: يُسهّل مصادرة أملاك الغائبين، ما يشكل خطراً مضاعفاً على الكرد الذين هُجروا قسراً خلال الحرب.
هذه الترسانة القانونية لم تكن عشوائية، بل شكّلت بنية متكاملة لـ “التطهير العقاري المقنن”، الذي يصعب تفكيكه دون عملية سياسية شاملة وجريئة.

ما لم يُصحّح العقار، لا مستقبل للعدالة في سورية

أن حرمان الكرد من حقوقهم العقارية، وتغييبهم عن وثائق الملكية، وتعريضهم لسياسات التهجير البارد، ليس فقط ظلماً تاريخياً، بل تهديد صريح لأي حل سياسي قادم. فلا مصالحة وطنية حقيقية دون استعادة الحق في الأرض، وتفكيك البنية القانونية التي شرعنت التمييز.
وما لم تُلغَ تلك القوانين ويتم الاعتراف بالظلم الواقع، فإن الأرض في سورية ستبقى شاهدة على تهميش شعب، واستمرار نظام، وخطر تكرار نفس السياسات بوجوه جديدة، تحت شعارات مختلفة.